عَشِيَّةَ سَبْتٍ، تَلَقَّيْتُ اتِّصالًا سَحَبَني مِنْ لِقاء عَشاء. كَأَنّه يَسحَبني مِنَ الواقِعِ الَّذي يُحاوِلُ العالم أَن يَرسُمَهُ لي، الَّذي يحلو لي أَحيانًا أَنْ أَقبلَ وَهمَهُ. إِنَّهُ لا يَزالُ باستطاعَتي الأَكلَ وَالشُّربَ كَأَنَّ كُلَّ شَيءٍ على ما يُرام.

كُنتُ قَد حَجَزْتُ لِحضورِ عَرضٍ حَول المساجينِ سابِقًا وَانشغالاتٌ كَثيرةٌ أَلهتني فَنَسِيتُ المَوعِدَ. نَسيت تمامًا كما ننسى التزامنا الإِنسان في زَحمة أَيَّامنا، وَكما نَنَسى المَعنى في سَعيِنا اليَومِيِّ وَراءَ لُقمةِ عَيشنا.    

“معك تلات دقايق تكون هون”.

دَخَلتُ بَيْتَ الفَنَّان، غُرفَةٌ واسِعَةٌ لا تُشبِهُ أَيَّ مَكان تَردَّدتُ إليهِ في الآوِنَةِ الأَخيرة. لا كَهنَة، لا ناس تُعامِلني بِتَأليهٍ مُعَيَّن، أَو تَخْجَلُ مِنْ وُجودي فَتُعَدِّل أُسلوبها في التَّكلُم وَالتَّصرُّف. هناك جَوّ مِنَ الحُرِّيَّةِ، لي وَلهم. جَوٌّ مِنَ الحُرِّيَّةِ في عَرْضٍ حَولَ المساجين.

جَلستُ بَيْنَ النَّاسِ، منهم مَنْ نَعرفُ بعضَنا البَعض، وَمِنهم مَنْ لَمْ تتسنَّ لنا الفُرصَة أَن نَلتقي قَبل الآن.

وَالتَقَينا، بَيْنَ الكراسي، حول الشَّاشة، حول ثلاثة أَشخاصٍ واقفينَ أَمامَ الشَّاشَةِ. مَسؤولَة البيت، مُعالِجَة دراما وَسجين سابق مِمّن يدور حولهم الوثائقيّ.

“المساجين الزُّرق” عُنوانُ ما ينتظرنا. الأَزرق لون الحُزن، لَون التَّوحد، لَون المَبنى الّذي يَسكُن فيه المَساجين الَّذين يُعانون من الأَمراض النَّفسيَّة. “يسكنون” تَلطيف لِلواقع، فهؤلاء “المَعتوهون”، “المَجانين” وَ”الممسوسون” يَقبعونَ هُنا، بَعد أَن رَمَتهم الأَحكام المُهتَرِئَة، وَسيظلُّونَ قابعين “لحين الشِّفاء”.

بَدأَ العرض، وَوَعيتُ فَجأَةً أَنَّ عَرضَ اليوم يُحضِّرني لِوَعظة الغَد حول إِنجيل الدّينونة، بِخاصّةٍ: “كنت سجينًا فَزرتموني” (مت 25 : 36).أَدركتُ أَن فَنَّ اليوم هو فنّ الله الَّذي يُكلّمنا “بأَشكالٍ شتّى”. (عب 1:1)

بَدَأَ العرض، وَأَنا القلق حول تحضير عِظة الغد، بدأتُ أَتَّعِظُ مِنَ الوجوه الَّتي تَمُرُّ أَمامي :

الدَّرس الأَوَّل : بين وعي المساجين لحالتهم في السِّجن، وَجهلنا نحن للسِّجن الأَكبر الَّذي نعيش فيه، قرَّر هؤلاء أَن يَلتزموا أَلَم رفاقهم. واللّافت أَنَّهم بِحاجة لمن يلتزم وجعهم. قرَّروا أَن يَختار كُلّ واحِد مِن المساجين “الأَصحّاء”  شخصًا من رفاقهم الزُّرق، وَيُجسِّد شَخصيَّته في مَسرحيَّةٍ تهدفُ إلى التّوعية حَول الحالة الزَّرقاء في رومية. لربَّما أَنَّ الأَلَم يجعلنا أَكثر تعاطفًا مع أَلم الآخرين. أَو أَنَّ الأَلم قد يكون الطَّريق الأَسرع، ولو أَنَّهُ مُؤسف، صوب الوعي. وَالوعي لأَلمِنا، خصوصًا في مجتمع اعتادَ طمرَ كلّ شُعور، هو الطَّريق الأَسرع نحو التَّعاطف وَالتَّضامن وَالتَّعاضُد. الوعي هو الطَّريق الأَسرع نحو الحبّ.
وَلربما، وَبالرُّغمِ من هولِ الآلام الَّتي تجتاحنا، لا نزال بحاجة إِلى كارِثَةٍ أَكبر، تكسر قوقعتنا وتفتحنا على الآخرين. وَلعلَّنا بِحاجة إلى أَن “نُحَطِّم مرآتنا وَنَرى كم نحن نُشبِهُ الآخرين” (محمود درويش). فنتضامَن مَعَهم قبل أَن يحلّ فينا ما حلّ فيهم بل أَن نعي أَنَّ ما يحلّ فيهم يَمسّنا حتَّى قَبل أَن يمسّنا.

الدَّرس الثَّاني:  في أَحد المشاهد، تجلس زينة دكَّاش بين مجموعةٍ من المساجين الزُّرق. وَيبدأ أَحدهم بِمشاركَة ماضيه مع الباقين، وَيتحدَّث عن ما تعرّض له من عنفٍ في المنزلِ ليصلَ إِلى الاستنتاج القائل: أَكيد بدّو يكون عندي مشاكل نفسيَّة. وَفي مشهد آخر، يقف أَحد المرضى النَّفسيّين أَمام زميله وهو يجسّد له بعض الحركات الَّتي انتبه لها من مراقبتِهِ، فيقوم المريضُ بإطلاع الممثِّلِ على حركةٍ إضافيَّةٍ له.

 أَكثر الأَماكِن الَّتي يَتَجنَّب الإنسان زيارتها هي داخله. لَعلّ الوقت الَّذي يقضيه السَّجين دون أَن يُسأَلَ عنه أَو يزوره أَحَد يدفعه أَخيرًا إلى أَن يزور نفسه ويطرح عليها الأَسئلة الَّتي يتوق أَن يسأَله إِيّاها الأَقارب، الأَسئلة الَّتي لطالما تجنَّبها تجنُّبًا لأَجوبتها وللحقيقة الَّتي تحملها في طيَّاتها. يصل هذا الإِنسان إِلى إِدراك نفسه أَنَّه ضحيَّة، دون أَن يرفع عن نفسه المسؤوليَّة. يصل إِلى إِدراك صعب، مؤلم وفي الوقت ذاته محرّر. كم من إنسان “مسؤول” تجرّأ أَن يقوم بهذه الزِّيارة ليرى إِن كانَ هو حقًّا ضَحيَّة أَو جلّاد؟ كم من كارثة كان يمكن تجنُّبها لو لم يتجنَّب أَغلبيَّة أَهلنا مُراجعة ضمائرهم؟ كم من ثمار كنَّا قطفناها لو قبلنا من الآخر أَن يعكس لنا خواصنا وجزء من هويَّتنا كما هو يراها لعلَّه يساعدنا على الرُّؤية بشكلٍ أَفضل؟

الدَّرس الثَّالث: من المشاهد اللّافتة للنَّظر، مشهد السُّجناء العراة الصَّدر، الّذينَ تكسو الأَوشام أَجسادهم، وَهُم يرقصون رقصًا تعبيريًّا. التَّناقض بين خشونة الأَجساد ورقَّة الحركة تُعبِّر عن سموِّ الإنسانِ فوق قساوة الأَحكام الَّتي نُطلقها عليه، وعن أَنَّ الإنسان سِرٌّ لا يُسبر، حتَّى وإِن شاركك جزءًا من قصَّته، بل قصَّته بالكامل. حتَّى حينها، على حدّ قول ميخائيل نعيمة، يبقى ما هو “أّبعد، أّو أَعمق، من متناول أَبصار النَّاس وأَفكارهم. فذلك وحده يبقى له بمثابةِ قدس أَقداسه – لا يدخله أَحد غيره”. لذلك لا يحق لنا أَن نفقد الرَّجاء بِمفاجآتِ الحياة، ولا بقدرات إنسانٍ أَو شعبٍ أَو وَطَنٍ في التَّغلُّبِ على تَطبيعِ وَترويضِ وَترويج صور نمطيَّة عنه، غُرِزَت وَثُبِّتَت في وجدانِهِ ووجدان الآخرين.  

واللّافت أَيضًا، أَنّ المخرجة تَترك المجال لأَحد السُّجناء المرضى لإيصال رسالة خاصَّة به، في كلّ تمرين أَو عرض، حتَّى لو أَنّ الرِّسالة في الكثير من الأَحيان غير مفهومة. لكن من قال إنّه لا يجوز الكلام إِلّا حين يُفهم؟ َومن قال إنّه لا يَحقُّ لأَيّ كان التَّعبير عن ذاتِه بِالطَّريقة الَّتي يَعرفها هو ولو لم تتناسب مع معايير فهمنا ونظرتنا ورؤيتنا لِلأمور؟ إِنّ درسًا في الإِخراج قد يفيد بعض وزاراتنا وَأَجهزتنا وَمتطرِّفي الطَّوائف في كيفيَّة ترك المجال للتَّعبير الحرّ الَّذي غالبًا ما لا يتناسبُ وأَمراضهم القمعيَّة.

الدَّرس الرَّابع: آلمني خلط المفاهيم الحاصل في نصوص القانون. قد يعذر القانون تاريخ تدوينه الَّذي يسبق بروز علم النَّفس. لكن بقاءَه يعكس ضياعًا في النُّفوس لا يُعذَر ولا يُبرَّر. بقاؤه يعكس ما في داخلنا من نزعات ل”روحنة” كلّ أمراضنا فيضحي الرّوح الَّذي يحيي، روحًا يحجب الحياة وخدمتها بشكل أَوفر.  كما أَنَّنا ننقل دومًا صراعاتنا إِلى مضمار الآلهة فتسهِّل شيطنة كلّ اختلاف، وتكفير كلّ نقد وَتحويل كلّ تنديدٍ إِلى تجديف. الفصل هو الوضوح، وَعند الخلق قام الله بفصل النُّورِ عَن الظُّلمَة ، وَقام بخلق السماء لتفصل بين ما هو فوق وما هو تحت (تك 1 : 4 – 6). وَإِن كنَّا نُريد المساهمة في خلق وَطنٍ جَديد وَإنسانٍ جديد علينا أَن نبدأ بالفصل وَالتَّمييز لمزيد من الوضوح وَالحياة وَأَقلّ مِنَ الفوضى وَالأَذى.    

الدَّرس الخامس: أَحد السُّجناء أُوكل بالعنايةِ بالموتى لحين وصول الإِسعاف لنقل الجثَّة وَغالبًا ما يتأخَّر وصوله. البيروقراطيَّة الَّتي تقتل الإنسان مرَّتين، وَالَّتي تعطيه في موته وقتًا أَكثر مما أَعطته في حياته، وَيمرّ كجثَّة في “معاملات” بعد أَن مرّ كلّ حياته مهملًا ومتألِّمًا من سوء المعاملة هذا إِن وجدت أَي معاملة. ويقول السَّجين “الحانوتي” إنّه يهتمّ بِأَدقّ التَّفاصيل حتَّى يصل به الحال أَن يضع لهم العطور، ويبرِّر اهتمامه بكلمة : “لأنَّه إنسان”. وَيعكس هذه الرَّغبة العميقة في داخل كلّ واحد منَّا أَن يكونَ إِنسانًا وَيعامل على هذا الأَساس. أَن يعامل على أَساس ماهيَّته لا انتاجيَّته أَو ثروتِهِ أَو مهنتِهِ أَو معتقده الخ.
يأتي سجين آخر ليطالب بوزير للسَّعادة. ليعود وَيكشف لنا أَنَّ في العمق كلَّنا نتشابه في بحثنا عن بعض السَّعادة في قلب المتاهة الوطنيَّة. وبعضنا يضلُّ في بحثه، وبعضنا يستسلم وكلَّنا في العمق نعلم أَنَّنا لم نكن لنتوه لو وجد من يرافقنا، ولما استسلمنا لو وجد من يعلم كيف يحبّنا. وكلّنا كنَّا لنكون أَلطف وَأَكثر تضامنًا ولو تذكَّرنا أَن لنا نفس الغاية، وَأَنَّ السَّعادة لا تقلّ إذ قُسّمت فيما بيننا بل تزداد وتكبر حصَّة كلّ واحد منَّا. فمن أَراد المحاصصة فليأخذ حصَّته في معاملة الإنسان فيعطي حصَّة من السَّعادة وينالها أَضعافًا.

الدَّرس السَّادس: يتفاجَأُ السَّجين بأَنّ وزراء ومسؤولين أَمنيّين سيحضرونَ العرض. ويطالب بأن يُسأل عمَّا لديه من مطالب. يطلب سؤالًا كذاك الَّذي اعتاد أَن يسأله يسوع: “ماذا تريد أَن أَصنع لكَ؟” (لو 18 : 41). كذاك الَّذي اعتدنا تجاوزه لنتكهّن نحن حاجات الآخرين قبل أَن نصل إِليهم. فنصل في عيد الميلاد “لنساعد” الآخرين، محمَّلين بالأَكياس وَالحاجيّات. حاجيّات من؟ هل سأَلناهم؟ هل نظرنا إِليهم؟ هل انطلقنا من حاجتهم للحياة او من حاجتنا لراحة الضَّمير أَو الظُّهور كأَبطالٍ أَمامَ أَنفسنا وَالآخرين؟ كم من الأَحوال اختلفت لو سأَلنا الآخرين؟ لو انطلقنا منهم وإِليهم بدل أَن ننطلقَ من أَنفسنا وَنعود إِلينا، ونفوِّت فرصة لقاء الله فيهم.

الدَّرس الأَخير : في النِّقاش مع المخرجة بعد العرض، تروي حادثةً بين السُّجناء، وفي اشارتها إليهم تعدِّد جرائمهم. وَعيت لأَمر مهمّ، أَن نقبل الآخرين كما هم، دون السَّعي لأَسباب تخفيفيَّة وَتجميليَّة. الانطلاق من واقعهم كما هو، ملاقاتهم حيث هم، كما أَتى إِلينا وَتجسَّد بينا ولاقانا حيث نحن ليسير بنا إِلى حيث هو، إِن أَردنا. قبول الآخرين في قبولهم لنا أَو رفضهم، قبول الآخرين وَالتَّجسُّد في واقعهم، الاستماع إِلى هواجسهم كما سمع الله صراخ شعبه، حملهم إِلى ملء الحياة لا لنصبح نحن صوت من لا صوت لهم، بل ليكتشف أُولئك الَّذين لا صوت لهم، صوتَهم الخاصّ وكلماتهم الخاصَّة وَحقّهم المقدَّس بِالكرامةِ وَالحياةِ وَالسَّعادَةِ.

مُنذُ ليلة السَّبت وَأَنا أَتحضَّر لأَعِظَ عن المسيح في المريض والجوعان والعطشان وَالغريب وَالمريض وَالسَّجين، زرتهم دفعةً واحدة في شاشةٍ. فَالسَّجين الأَزرق جوعان وعطشان لماء وَخبز، وَلاحترام وَمرافقة. وَهو غَريب عن أَهل بلدِهِ إِذ إِنَّه في وسطهم دون أَن يدري أَحدًا بِحاله وَهو مريض يُعامَل على أَساسٍ لا يشبه مرضه وهو سجين حرب الدَّولة عليه عن قصد أو عن غير قصد، بمعرفة أو بغير معرفة، وفي كل الحالات الويل لنا. تلك الزِّيارة عساها أَلَّا تقف عند حدود الشَّاشة، بل تتعدَّاها لالتزام آلامهم يوميًّا “لحين شفاء” الدَّولة وَالقانون مِن مرضهما المستعصي وَمسّهما.         

                                                              في 2 / 11 /2021